فصل: قال السعدي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

كررت جملة {قلنا اهبطوا} فاحتمل تكريرها أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية من غير أن تكون دالة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم فيكون هذا التكرير لمجرد اتصال ما تعلق بمدلول {وقلنا اهبطوا} [البقرة: 36] وذلك قوله: {بعضكم لبعض عدو} [البقرة: 36] وقوله: {فإما يأتينكم مني هدى}.
إذ قد فَصَل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37] فإنه لو عقب ذلك بقوله: {فإما يأتينكم مني هدى} لم يرتبط كمال الارتباط ولتوهم السامع أنه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن فلدفع ذلك أعيد قوله: {قلنا اهبطوا} فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام ولذلك لم يعطف {قلنا} لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله: {قلنا اهبطوا منها جميعًا} من قوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} منزلة التوكيد اللفظي ثم بنى عليه قوله: {فإما يأتينكم مني هدى} الآية وهو مغاير لما بنى على قوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة {اهبطوا} مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} [آل عمران: 188] وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ.
وقيل هو أمر ثاني بالهبوط بأن أهبط آدم من الجنة إلى السماء الدنيا بالأمر الأول ثم أهبط من السماء الدنيا إلى الأرض فتكون إعادة {قلنا اهبطوا} للتنبيه على اختلاف زمن القولين والهبوط وهو تأويل يفيد أن المراحل والمسافات لا عبرة بها عند المسافر ولأن ضمير {منها} المتعين للعود إلى الجنة لتنسق الضمائر في قوله: {وكلا منها رغدًا} [البقرة: 35] وقوله: {فأزلهما الشيطان عنها} [البقرة: 36] مانع من أن يكون المراد اهبطوا من السماء جميعًا إذ لم يسبق معاد للسماء فالوجه عندي على تقدير أن تكون إعادة {اهبطوا} الثاني لغير ربط نظم الكلام أن تكون لحكاية أمر ثانٍ لآدم بالهبوط كيلا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض وهو ما أخبر به الملائكة.
وفيه إشارة أخرى وهي أن العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات.
وأما تحقيق آثار المخالفة وهو العقوبة التأديبية فإن العفوعنها فساد في العالم لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة، فإن الصبي إذا لوث موضعًا وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه فالعفو يتعلق بالعقاب وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه ولذا لما تاب الله على آدم رضي عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه، هكذا ينبغي أن يكون التوجيه إذا كان المراد من {اهبطوا} الثاني حكاية أمر ثان بالهبوط خوطب به آدم.
و{جميعًا} حال.
وجميع اسم للمجتمعين مثل لفظ جمع فلذلك التزموا فيه حالة واحدة وليس هو في الأصل وصفًا وإلا لقالوا جاءوا جميعين لأن فعيلًا بمعنى فاعل يطابق موصوفه وقد تأولوا قول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت جميعة

بأن التاءَ فيه للمبالغة والمعنى اهبطوا مجتمعين في الهبوط متقارنين فيه لأنهما استويا في اقتراف سبب الهبوط.
وقوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي} شرط على شرط لأن أما شرط مركب من إن الشرطية وما الزائدة دالة على تأكيد التعليق لأن إن بمجردها دالة على الشرط فلم يكن دخول ما الزائدة عليها كدخولها على متى وأي وأين وأيان وما ومن ومهما على القول بأن أصلها ماما لأن تلك كانت زيادتها لجعلها مفيدة معنى الشرط فإن هذه الكلمات لم توضع له بخلاف إن وقد التزمت العرب تأكيد فعل الشرط مع إما بنون التوكيد لزيادة توكيد التعليق بدخول علامته على أداته وعلى فعله فهو تأكيد لا يفيد تحقيق حصول الجواب لأنه مناف للتعليق، ولذلك لم يؤكد جواب الشرط بالنون بل يفيد تحقيق الربط أي إن كون حصول الجواب متوقفًا على حصول الشرط أمر محقق لا محالة فإن التعليق ما هو إلا خبر من الأخبار، إذ حاصله الإخبار بتوقف حصول الجزاء على حصول الشرط فلا جرم كان كغيره من الأخبار قابلًا للتوكيد وقلما خلا فعل الشرط مع إما عن نون التوكيد كقول الأعشى:
إما تريْنا حُفاةً نعال لنا ** إنا كذلك ما نحْفي وننتعل

وهو غير حسن عند سيبويه والفارسي، وقال المبرد والزجاج هوممنوع فجعلا خلو الفعل عنه ضرورة.
وقوله: {فمن تبع هداي} مَن شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها {فلا خوف عليهم} لأن الفاء وإن دخلت في خبر الموصول كثيرًا فذلك على معاملته معاملة الشرط فلتحمل هنا على الشرطية اختصارًا للمسافة.
وأظهر لفظ الهدى في قوله: {هُداي} وهوعين الهُدى في قوله: {مني هدى} فكان المقام للضمير الرابط للشرطية الثانية بالأولى لكنه أظهر اهتمامًا بالهدى ليزيد رسوخًا في أذهان المخاطبين على حد {كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 15، 16] ولتكون هاته الجملة مستقلة بنفسها لا تشتمل على عائد يحتاج إلى ذكر معاد حتى يتأتى تسييرها مسير المثل أو النصيحة فتُلحظ فتحفظ وتتذكرها النفوس لتهذب وترتاض كما أظهر في قوله: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا} [الإسراء: 81] لتسير هذه الجملة الأخيرة مسير المثل ومنه قول بشار:
إذا بَلغ الرأي المَشُورةَ فاستعن ** برأي نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً ** مكانُ الخوافي قوةٌ للقوادم

وأدْنِ إلى الشُّورى المسدَّدَ رأيُهُ ** ولا تُشهد الشورى امرًا غير كاتم

فكرر الشورى ثلاث مرات في البيتين الثاني والثالث ليكون كل نصف سائرًا مسير المثل وبهذا يظهر وجه تعريف الهدى الثاني بالإضافة لضمير الجلالة دون أل مع أنها الأصل في وضع الظاهر موضع الضمير الواقع معاد لئلا يفوت هاته الجملة المستقلة شيء تضمنته الجملة الأولى إذ الجملة الأولى تضمنت وصف الهدى بأنه آت من الله والإضافة في الجملة الثانية تفيد هذا المفاد.
والإتيانُ في قوله تعالى: {فإما يأتينكم} بحَرف الشرط الدال على عدم الجزم بوقوع الشرط إيذان ببقية من عتاب على عدم امتثال الهدى الأول وتعريض بأن محاولة هديكم في المستقبل لا جدوى لها كما يقول السيد لعبده إذا لم يعمل بما أوصاه به فغضب عليه ثم اعتذَر له فرضي عنه: إنْ أوصيتك يومًا آخر بشيء فلا تَعُدْ لمثل فعلتك، يعرض له بأن تعلق الغرض بوصيته في المستقبل أمر مشكوك فيه إذ لعله قليل الجدوى، وهذا وجه بليغ فات صاحب الكشاف حجبه عنه توجيهٌ تكلَّفه لإرغام الآية على أن تكون دليلًا لقول المعتزلة بعدم وجوب بعثة الرسل للاستغناء عنها بهدي العقل في الإيمان بالله مع كون هدي الله تعالى الناس واجبًا عندهم، وذلك التكلف كثير في كتابه وهو لا يليق برسوخ قدمه في العلم، فكان تقريره هذا كالاعتذار عن القول بعدم وجوب بعثة الرسل على أن الهدى لا يختص بالإيمان الذي يغني فيه العقل عن الرسالة عندهم بل معظمه هدي التكاليف وكثير منها لا قِبَل للعقل بإدراكه، وهو على أصولهم أيضًا واجب على الله إبلاغه للناس فيبقى الإشكال على الإتيان بحرف الشك هنا بحالة فلذلك كانت الآية أسعد بمذهبنا أيها الأشاعرة من عدم وجوب الهدي كله على الله تعالى لو شئنا أن نستدل بها على ذلك كما فعل البيضاوي ولكنا لا نراها واردة لأجله.
وقوله: {فإما يأتينكم منّي هدى} الآية هو في معنى العهد أخذه الله على آدم فلزم ذريته أن يتبعوا كل هدى يأتيهم من الله وأن من أعرض عن هدى يأتي من الله فقد استوجب العذاب فشمل جميع الشرائع الإلهية المخاطب بها طوائف الناس لوقوع هدى نكرة في سياق الشرط وهو من صيغ العموم، وأولى الهدي وأجدره بوجوب اتباعه الهدي الذي أتى من الله لسائر البشر وهو دين الإسلام الذي خوطب به جميع بني آدم وبذلك تهيأ الموقع لقوله: {والذين كفروا} إلخ فالله أخذ العهد من لدن آدم على اتباع الهدي العام كقوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة} [آل عمران: 81] الآية.
وهذه الآية تدل على أن الله لا يؤاخذ البشر بما يقترفونه من الضلال إلا بعد أن يرسل إليهم من يهديهم فأما في تفاصيل الشرائع فلا شك في ذلك ولا اختلاف وأما في توحيد الله وما يقتضيه من صفات الكمال فيجري على الخلاف بين علمائنا في مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك، ولعل الآية تدل على أن الهدى الآتي من عند الله في ذلك قد حصل من عهد آدم ونوح وعرفه البشر كلهم فيكون خطابًا ثابتًا لا يسع البشر ادعاء جهله وهو أحد قولين عن الأشعري، وقيل لا، وعند المعتزلة والماتريدية أنه دليل عقلي.
وقوله: {فلا خلاف عليهم} نفي لجنس الخوف.
و{خوف} مرفوع في قراءة الجمهور وقرأه يعقوب مبنيًا على الفتح وهما وجهان في اسم لا النافية للجنس وقد روي بالوجهين قول المرأة الرابعة من نساء حديث أم زرع: زوجي كليل تهامه لا حر ولا قُر ولا مخافة ولا سآمة.
وبناء الاسم على الفتح نص في نفي الجنس ورفعه محتمل لنفي الجنس ولنفي فرد واحد، ولذلك فإذا انتفى اللبس استوى الوجهان كما هنا إذ القرينة ظاهرة في نفي الجنس. اهـ.

.قال السعدي:

رتب على اتباع هداه أربعة أشياء:
نفي الخوف والحزن والفرق بينهما، أن المكروه إن كان قد مضى، أحدث الحزن، وإن كان منتظرا، أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا، حصل ضدهما، وهو الأمن التام، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه، حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه، من الخوف، والحزن، والضلال، والشقاء، فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه، فكفر به، وكذب بآياته. اهـ.

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى}.
وفى الأعراف {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو} وفى سورة طه {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو}.
ويسأل عن أى شيء لم ترد هذه الزيادة في قوله في البقرة: {قلنا اهبطوا منها جميعا}؟
والجواب عن ذلك: أنه لم يرد ذلك هنا اكتفاء بما في الآية قبلها وهو قوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو}.
فلو قيل ذلك في الآية بعدها مع الاتصال والتقارب لكان تكرارا لا يحرز فائدة لم تحصل بخلاف ما في سورة الأعراف وسورة طه فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى في البقرة: {فمن تبع هداي} وفى سورة طه: {فمن اتبع هداي}.
هنا سؤالان: ما فائدة اختلافهما وما وجه تخصيص كل موضع منهما بما اختص به؟
والجواب عنه والله أعلم: أن تبع واتبع محصلان للمعنى على الوفاء، و{تبع} فعل وهو الأصل و{اتبع} فرع عليه لأنه يزيد عليه وهو منبئ عن زيادة في معنى فعل بمقتضى التضعيف فعلى هذا وبحسب لحظة ورعيه ورد فمن تبع وفمن اتبع وتقدم في الترتيب المتقرر فمن تبع لإنبائه عن الاتباع من غير تعمل ولا تكلف ولا مشقة، وأما اتبع فإن هذه البنية أعنى بنية افتعل تنبئ عن تعمل وتحميل للنفس فقدم ما لا تعمل فيه وأخر اتبع لما يقتضيه من الزيادة ولم تكن إحدى العباراتين لتعطى المجموع فقدم ما هو أصل وأخر ما هو فرع عن الأول وكلاهما هدى ورحمة وورد كل على ما يناسب ويلائم.
وجواب ثان ينبئ عليه ما تقدم فيكون جوابا واحدا وهو أن اتبع مزيد منبئ عن التعمل والعلاج كما تقدم ولا يفهم ذلك من تبع الذي هو الأصل وإنما ينبئ في الأظهر عن قضية يتلو فيها التابع المتبوع متقيدا به في فعله من غير كبير تعمل ولا علاج وكل من العبارتين أعنى تبع واتبع إنما يستعمل في الغالب حيث يراد مقتضاه مما بينا، ألا ترى قول الخليل عليه السلام في اخبار الله تعالى عنه: {فمن تبعنى فإنه منى} حين أشار بقوله: {فانه منى} إلى الخاصة من سالكى سبيله باتباعه القديم، فعبر بما يشير إلى غاية التمسك والقرب حين قال: {منى} فناسب ذلك قوله: {تبعنى} يريد الجرى على مقتضى الفطرة وميز الحق بديها بسابقة التوفيق من غير إطالة نظر من حال هؤلاء من قيل فيه: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وهذه الآية وأمثالها مراد بها من تعامى عن النظر في الدلالات وترك واضح الاعتبار وحمل نفسه بقدر الله على ما لا يشهد له نظر ولا يقوم عليه برهان فكأن هؤلاء تعلموا في ذلك وعالجوا أنفسهم حتى انقادت طباعهم إلى غير ما تشهد به من الفطرة ولذلك استعير لمن جرى على حال هؤلاء البيع والشراء فقيل: {أولئك الذين اشروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} لما كان ما بسط من الدلائل ونصب من الآيات والشواهد واضحا وكانوا ذوى أسماع وأبصار وأفئدة فما اعتبروا ولا أجدت عليهم كان سلوكهم سبل الغى والضلال تعملا وتركا للرشد على بصيرة ولذلك أخبر الله تعالى عن حال هؤلاء في فعلهم ومرتكبهم بالجحود فسماه بهذا في قوله تعالى: {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله}.
ولا يقال جحد إلا فيمن كتو معلوما بعد حصوله وتظاهر بباطل فقد اعتمل نفسه غى ذلك فعبر عن مثل هذا بأتبع ولم يكن موضع {تبع} وكذلك قيل لمن وسم بالاسراف في المخالفات من عصاة الموحدين فقيل لهم: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} وذلك لإلفتهم المخالفات وانقياد نفوسهم لها حتى احتاجوا في الإقلاع عن ذلك والأخذ في خلاف حالهم إلى التعمل والعلاج، وكذا قيل لمن ألف الطاعات وارتاض لالتزامها: {لا تتبعوا خطوات الشيطان} لإلفة نفوسهم الطاعات حتى أنهم وقعت منهم مخالفة فبتعمل وعلاج لأنها خلاف المألوف فتأمل ما يرد هذا فإنه يوضح بعضه، وإذا تقرر هذا فتأمل ما بين القضيتين، فأقول: لما تقدم في آية البقرة قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما} إلى قوله: {فمن تبع هداى} ولم يرد فيها مما كان من إبليس سوى ما أخبر به تعالى عنه من قوله: {فأزلهما الشيطان عنها} من غير تعرض لكيفية تناوله ما فعل ولا ابداء علة ولا كبير معالجة ناسب هذا: {تبع} ولما ورد في آية طه ذكر الكيفية في إغوائه بقوله له: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} وقد حصل في هذا الإشارة إلى ما بسط من قوله في الأعراف: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} وقسمه على ذلك فكان هذه كله قد تحصل مذكورا في آية طه بما تضمنته من الإشارة إليه، فأفهمت الآية قوة كيد اللعين واستحكام حيلته حتى احتنك الكثير من ذريته وحملهم على عبادة الطواغيت وتلقت النفوس المتعاقبة ذلك منه بقبول فصار تمييز الحق لا يحصل إلا بمعالجة وتعمل فناسبه فمن اتبع كما ناسب ما تقدم في آية البقرة فمن تبع، من حيث لم يبسك فيها من كيد اللعين ما بسط في آية طه فورد كل على ما يناسب معنى ونظما وإيجازا وإطالة بإطالة ثم إذا لحظ الترتيب فالجارى على رعية تقديم ما هو الأصل وتأخير ما هو الفرع فقيل في آية البقرة: فمن تبع وفى آية طه: فمن اتبع، وحصل رعي الوجوه الثلاثة ووضح أنه مقتضى النظم والله أعلم بما أراد. اهـ.